خرائطُ العازفِ / قصيدة نثر
بينَما كانَتْ بُحْبوحَةُ الحيِّ ،
نصفُها يهجَعُ في شفةِ الأرقِ ،
ونصفُها تهشِّمُهُ الكوابيسُ ،
نزفَتْ خرائطُ العازفِ ،
إنّهُ زلزالٌ عشبيٌّ خبيءٌ سرى في الجمادِ ،
*
النغماتُ تقفِزُ مبلّلةً مثلَ جوفِ الحجرِ ،
بطيئةً مثلَ القُبلةِ السُّلَحْفاةِ ،
مرتعدةً مثلَ لُهَاثِ أسيرٍ فارٍّ ،
*
ليسَتْ ريشةً في يدِهِ بل أفعىً هنديّةٌ تبينُ من جيتارِهِ ،
وتتلوَّى حولَ عَمودِ زفيرِهِ ،
*
العازفُ كلَّ يومٍ لهُ حِدادٌ كأنّ كلَّ الأرضَ ابنتُهُ ،
غيرَ أنّهُ يتحالفُ معَ طالبٍ جامعيٍّ يقنعُ صديقتَهُ ،
بأنّ النغماتِ ستتمكنُ من حشرِ ثورٍ هائجٍ في خُرْمِ الإبرةِ ،
*
في قاموسِ العازفِ الوحدةُ نغمةٌ مقدَّسَةٌ والنافذةُ كنيستُها ،
*
العَمودُ الفقريُّ سطرٌ موسيقيٌّ ،
والفقراتُ غرفٌ يستحمُّ فيها لؤلؤٌ ملوَّنٌ ،
*
الشيخوخةُ الدامعةُ راقصةٌ شرقيّةٌ ،
تشاهدُ عرضاً قديماً لها من كرسيِّ الإعاقةِ ،
*
السكّةُ قلادةٌ خشبيّةٌ والحقائبُ علاماتُ النزوحِ ،
*
أنا وزيرُ الطبيعةِ أستقبلُ في مكتبي مئاتِ الشكاوى ،
من الأشجارِ تُحْرِقُها الفزّاعاتُ ،
من الهواءِ تثقبُهُ الصواريخُ ،
من الأسماكِ تكدِّرُ حراشفَها ناقلاتُ النِّفْطِ ،
من التربةِ تغُصُّ بالجثثِ ،
ومن الطحالبِ يهملُها النحلُ ،
*
الخارطةُ الأولى: دو
دويُّ الماءِ في جغرافيا الخفاءِ ،
دموعُ الثريّا فوقَ جِمَالِ البنفسجِ ،
دمارُ الخريفِ غيرُ الصحيِّ ،
دماءُ الربيعِ تتفتّقُ في ثغرٍ ورديٍّ ،
دِلاءُ الصيفِ مُنْدَلِقَةٌ في عينِ المنتظِرةِ ،
ودلالُ الشتاءِ في شفةِ المنتظِرِ ،
*
الخارطةُ الثانيةُ: ري
رقابُ الأمواجِ تتكسّرُ فوقَ أثداءِ الصخورِ الساحليّةِ ،
رحيلُ السجونِ من قبضةِ الدكتاتور إلى ذاكرةِ الحطبِ ،
رسومُ الأندلسِ كمُهَدِّئاتِ الأعصابِ ،
رقيمُ الجوزاءِ يزيّنُ مكتبةَ المجرَّةِ ،
رغيفُ الشمسِ تتناتفُهُ عصافيرُ الغيومِ ،
رسائلُ المطرِ قبلَ أن تتجمَّدَ ،
ورمادُ القلوبِ في قارورةِ عطري ،
*
الخارطةُ الثالثةُ: مي
مِرْسالُ الحبِّ يضيءُ الوقتَ بالتوقّعاتِ اللذيذةِ ،
مدائنُ الأفكارِ اللامرئيّةِ تُوجِسُ ولادةً ،
إذْ يحلّقُ فوقَ بضائعِها بِسَاطُ الشاعرِ العبقريِّ ،
موانئُ النوارسِ حيثُ ريشُها الأبيضُ صحفُ الأعمى ،
وأعناقُها الحمراءُ المصفرَّةُ خاتَمُ الأصيلِ المنخورُ في إِصْبَعِ النهرِ ،
ملامحُ الفتاةِ المفردةِ كالزوبعةِ المفردةِ ،
مَوْصِلُ الشتيتينِ ومغناطيسُهما ،
مكنساتُ الهواءِ أعني الطواحينَ ،
مُسْتَجَمَّاتُ المغتربِ أعني المقاهيَ ،
ومداراتُ العرباتِ في شفاهِ الوحلِ ،
*
الخارطةُ الرابعةُ: فا
فراغاتُ أقفالِ الجسدِ من مفاتيحِ القبلةِ ،
فقّاعاتُ الندى تنعكسُ عليها أدَمَةُ الفلّاحِ ،
فضاءاتُ الشرفةِ للمحاصراتِ في بيوتِهِنَّ ،
فُكاهاتُ الحربِ المبكيةُ ،
فِرَاءُ الدببةِ على أكتافِ الصيّادِ تفتّشُ عن الثأرِ ،
وفراقُ المظلّاتِ في الصيفِ ،
*
الخارطةُ الخامسةُ: صول
صلواتُ العشبِ احتجاجاً على الأسْفَلتِ ،
صوامعُ النملِ لإقرارِ خُطّةِ الصيفِ ،
صورُ العائلةِ البيضاءُ والسوداءُ تلوِّنُها ذاكرةُ القلبِ ،
صباحاتُ الأعيادِ هيَ رئاتُ الرئاتِ ،
صهيلُ المغاراتِ منطلقٌ من أفواهِ نقوشِها ،
وصَلْصَالُ طينٍ يُشكّلُهُ حفيفُ شجرٍ غبيٍّ بهيئةِ فأسٍ ،
*
الخارطةُ السادسةُ: لا
ليوثُ عينيكِ تفترسُني في قفصِ القصيدةِ ،
لاءاتُ المظاهراتِ مصفوفةٌ أمامَ دساتيرِ الحاكمِ ،
لعبةُ اختباءِ الطلقةِ في سترةِ المسدَّسِ الكاتمِ ،
لهيبُ الممالكِ يُرشدُ الخطوةَ الآمنةَ ،
لوحُ جليدٍ يتربَّصُ بهِ شعاعُ شمسٍ ،
ولباسُ المآذنِ من حَمَامٍ ،
*
الخارطةُ السابعةُ: سي
سطوري قوافلُ من ذهبٍ ،
سمائي جوهرةٌ مسبَّعَةُ النقاءِ ،
سلالي تلالٌ ربيعيّةٌ مقلوبةٌ ،
سيوفي من حديدِ الكلامِ ،
ساحاتي فارسُها النسيمُ ،
سؤالي إجابتُهُ سؤالٌ ،
وسطوعي يُعمي الشموسَ ،
*
شوبانُ يعزفُ كمن يطاردُهُ البحرُ ،
ويداهُ تمسّدانِ جلدَ الحمارِ الوحشيِّ ،
وشوبانُ لم يفعلْ شيئاً سوى التنزّهِ بأصابعِهِ وهي أعناقُ الزَّرَافاتِ ،
*
الطيورُ تحسبُ سلكَ الكهرباءِ وترَ كمانٍ ،
الثيابُ الأنثويّةُ القصيرةُ تتلوّى ولا تجِفُّ لأنّ حبلَ الغسيلِ وترُ كمانٍ ،
وحبّةُ جوزِ الهندِ تكلِّفُ قاطفَها ما لا يحبُّ ،
تترنّحُ لكن لا تسقطُ لأنّ غصنَها وترُ كمانٍ ،
*
تأمّلوا خارطةَ العراقِ ،
تبدو مثلَ آلةِ تشيلو ودجلةُ والفراتُ وترانِ فيها ،
وقد عزفَ عليهما الجميعُ حتّى جفّت الأهوارُ ،
عبد الله سرمد الجميل
التعليقات